من رسالة الغربة لابي حيان التوحيدي


                        (من رسالة الغربة لابي حيان التوحيدي)

هذا وصف غريب نأى عن وطنٍ بُني بالماء والطين , و بعد عن آلافٍ له عهدهم الخشونة واللين , ولعله عاقرهم الكأس بين الغدران والرياض , واجتلى بعينه محاسن الحدق المراض , ثم إن كان عاقبة ذلك كله إلى الذهاب والانقراض , فأين أنت عن قريب قد طالت غربته في وطنه , وقل حظه و نصيبه من حبيبه وسكنه؟! و أين أنت عن غريب لا سبيل له إلى الأوطان , ولا طاقة به على الاستيطان ؟! قد علاه الشحوب وهو في كن , وغلبه الحزن حتى صار كأنه شن . إن نطق نطق حزنان منقطعا , وان سكت سكت حيران مرتدعا , وان قرب قرب خاضعا , و إن بعد بعد خاشعا , وإن ظهر ظهر ذليلا , وان توارى توارى عليلا , وإن طلب طلب واليأس غالب عليه , و إن أمسك أمسك والبلاء قاصد إليه , و إن أصبح أصبح حائل اللون وساوس الفكر , و إن أمسى أمسى منتهب السر من هواتك الستر, و إن قال قال هائبا , وإن سكت سكت خائبا , قد أكله الخمول , ومصه الذبول , وحالفه النحول , لا يتمنى إلا على بعض بني جنسه , حتى يفضي إليه بكامنات نفسه , و يتعلل برؤية طلعته , و يتذكر لمشاهدته قديم لوعته , فينثر الدموع على صحن خده , طالبا للراحة من كده ’. و قد قيل : الغريب من جفاه الحبيب . وانا أقول : بل الغريب من واصله الحبيب , بل الغريب من تغافل عنه الرقيب , بل الغريب من حاباه الشريب , بل الغريب من نودي من قريب , بل الغريب من هو في غربته غريب , بل الغريب من ليس له نسيب, بل الغريب من ليس له من الحق نصيب . فإن كان هذا صحيح , فتعال حتى نبكي على حال أحدثت هذه النفوة , وأورثت هذه الجفوة: لعل انحدار الدمع يعقب راحة من الوجد أو يشفي نجي البلابل يا هذا ! الغريب من غربت شمس جماله , واغترب عن حبيبه و عذاله. و أغرب في أقواله و أفعاله ,و غرب في إدباره و إقباله , واستغرب في طمره وسرباله . يا هذا : الغريب من نطق وصفه بالمحنة بعد المحنة , ودل عنوانه على الفتنة عقب الفتنة , و بانت حقيقته فيه في الفينة حد الفينة . الغريب من إن حضر كان غائبا , وإن غاب كان حاضرا . الغريب من إن رأيته لم تعرفه , و إن لم تره لم تستعرفه . أما سمعت القائل حين قال : بما التعلل ؟! لا أهل ولا زمن ولا نديم , ولا كأس , ولا سكن . هذا وصف رجل لحقته الغربة , فتمنى أهلا يأنس بهم , و وطن يأوي اليه , و نديم يحل عقد سره معه , و كأس ينتشي منها . و سكن يتوادع عنده . فأما وصف الغريب الذي اكتنفته الأحزان من كل جانب , و اشتملت عليه الأشجان من كل حاضر وغائب , و تحكمت فيه الايام من كل جانب وذاهب, و استغرقته الحسرات على كل فائت وآئب , و شتته الزمان و المكان بين كل ثقة و رائب , و في الجملة , أتت عليه أحكام المصائب والنوائب , و حطته بأيادي العواتب عن المراتب, فوصف يخفى دونه القلم ويفنى من ورائه القرطاس , ويشل عن بجسه اللفظ , لأنه وصف الغريب الذي لا إسم له فيذكر , ولا رسم له فيشهر , و لا طي له فينشر , ولا عذر له فيعذر , و لا ذنب له فيغفر , و لا عيب عنده فيستر . أيها السائل عن الغريب محنته ! إلى ههنا بلغ وصفي في هذه الورقات . فان استزدت زدت , و ان اكتفيت اكتفيت , والله أسال لك تسديدا في المبالغة , و ليا تأييدا في الجواب , لنتلاقى على نعمته , ناطقين بحكمته , سابقين الى كلمته . يا هذا ! الغريب في الجملة من كله حرقة , و بعضه فرقة , وليه اسف , ونهاره لهف , وغذاؤه حزن , عشاؤه شجن , وآراؤه ظنن , وجميعه فتن , و مفرقه محن , وسره علن , و خوفه وطن . الغريب من إن دعا لم يجب , و إذا هاب لم يهب . الغريب من (( إذا )) استوحش استوحش منه : استوحش لأنه يرى ثوب الأمانة ممزقا , واستوحش منه لانه يجد لما بقلبه من الغليل محرقا . الغريب من فجعته محكمة , و لوعته مضرمة . الغريب من لبسته خرقة , واكلته سلقة , و هجعته خفقة . دع هذا كله ! الغريب من أخبر عن الله بأنباء الغيب داعيا اليه . بل الغريب من تهالك في ذكر الله متوكلا عليه , بل الغريب من توجه الى الله قاليا لكل من سواه . بل الغريب من وهب نفسه لله متعارضا لجدواه . يا هذا ! أنت الغريب في معناك .


(من كتاب الأشارات الإلهية )


تعليقات